بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 19 يناير 2018

لماذا قتل السهروردي ( 1155 ـ 1191م) 

 هو أبو الفتوح يحيى بن حبشبن أميرك الملقب بشهاب الدين السهروردي نسبة لموطن مسقط رأسه في إحدى قرى زنجان بفارس القديمة. اختلف مؤرخو سيرته في ميلاده. وهو أحد أقطاب التصوف في الإشراق.

يسمى في الغرب بشهيد الرأي، تعلم في أصفهان ( إيران)، ثم واصل دراسته في ديار بكر (تركيا)، ثم أنتقل إلى بلاد الشام واستقر أخيرا في مدينة حلب ( سوريا) على عهد الملك الظاهر ابن صلاح الدين الأيوبي.

أمضى سنوات حياته الأولى في طلب العلم والمعرفة، فطاف بعدة مدن كانت تحسب جغرافيا على فارس الإمبراطورية قديما كإمراغة بأذربيجان،وأصبهان في وسط إيران، والأناضول بتركيا حاليا. وأحسن استقباله أمراء دولة السلاجقة. كانت للسهروردي اتصالات عدة بشخصيات هامة في العلوم الفلسفية والدين بمراغة، فقد التقى بمجد الدين الجيلي الذي تلقى عنه أصول الحكمة والفقه، وجرت بينه وبين فخر الدين الرازي صاحب التفسير الكبير مناظرات ومساجلات وملاسنات. وكان قد سبق وأن قرأ البصائر النصيريةفي المنطق لابن سهلان الساوي على يد الظهير الفارس بأصفهان، وفي أصفهان درس فلسفة ابن سينا فترجم له إلى الفارسية(رسالة الطير). ثم سافر إلى حلب حيث ألقى رحله متقربا إلى ملكها الظاهر ابن صلاح الدين الأيوبي، غير أن هذا التقارب لم يدم طويلا، ورأى الفقهاء في أن السهروردي يحمل أفكارا فاسدة ستضر بعقيدة الملك الظاهر، فحذروا صلاح الدين من عودة الحركات الباطنية إلى الساحة ممثلة في شخص السهروردي، ولا يستبعد أن تكون هذه هي التهمة الرئيسة التي قتل من أجلها، على أساس أن الحلاج قتل من قبل بسبب التهمة نفسها.

كانت أهم مرحلة مر بها في حياته هي تلك التيقضاها في مدينة حلب السورية، على عهد الملك الظاهر بن ناصر صلاح الدين، وفي حلب تمكن من التعرف على علمائها وفقهائها حيث ناظرهم وجادلهم في مسائل كثيرة. ونظرا لإلمامه بالفكر الفلسفي قربه الملك الظاهر إليه وصار مكينا عنده، غير أن السهروردي بدأ يفصح عما كان يضمره في نفسه من فلسفة الإشراق، فوشى به الفقهاء عندالسلطان صلاح الدين الأيوبي، وحذروه من خطورة ما يحمله من فلسفة الإشراق وعواقب تأثيرها على عقيدة السلطان الظاهر، واستدلوا أمام صلاح الدين على بطلان أفكاره، فأشار على ابنه بتقديمه إلى المحاكمة، ثم دعا الملك الظاهر الفقهاء إلى مناظرة السهروردي في المسائل التي أتهم بشأنها، فقيل أنه أفحم الفقهاء الذين ناظرهم وأظهرهم في موضع حرج، وقيل أن مناظرة علنية أخرى تمت في مسجد حلب، إذ سأله الفقهاء إن كان الله سيبعث نبيا بعد محمد أم لا؟

فأجاب أن النبوة  مثلها مثل الإمامة يمكن حصولها في كل عصر، أو كما ذكر في روايات أخرى كونه ادعى أن الله قادر أن يبعث نبيا بعد محمد، وعلل أن قدرة الله لا حد لها، فأول الفقهاء كلامه على أن ذلك يعني نهاية نبوة محمد عليه الصلاة والسلام. وعلى أساس هذه التهمة التي وجهت إليه أعلنوا كفره وإباحة دمه وطالبوا بإعدامه.

اختلفت روايات الباحثين في قضية إعدام السهروردي والطريقة التي تمت بها، فقيل أنه قبل إعدامه خُيِّرَ في كيفية قتله، فأختار أن يموت جوعا فمنع عنه الطعام حتى لفظ أنفاسه، وذكرت بعض الروايات الأخرى أنه  قتل بضربة سيف، وذهبت بعض الروايات إلى أنه تم حرقه، وفي رواية أخرى قيل أنه خنق بوتر، ولكن لا توجد رواية صحيحة يمكن الاعتماد عليها تثبت كيفية  قتله. وتضاربت الروايات كذلك عن المكان الذي أعدم فيه، أكان في حلب أم في مصر؟ غير أنهم اتفقوا على تاريخ الإعدام الذي كان سنة 1191م.

كان السهروردييحمل فكرا صوفيا اشراقيا، وقد تجلت فكرته الاشراقية في كتابه (حكمة الإشراق) إذ جمع فيه آراء فلسفية كثيرة، وكان منهجه الصوفي لا يختلف عن منهج الصوفية العام الذي يستمد أفكاره من فلسفات كثيرة شرقية وغربية. فبالإضافة إلى ما كان يحمله من عقيدة النور والظلمة المعروفة في الديانة المجوسية القائمة على أساس الاعتقاد بأن النور هو أصل الأشياء ومبدأ الوجود وأن الله هو نور الأنوار. وأن الظلمة ما هي إلا وجها معاكسا للنور، وكلما انحدر الوجود اتجه نحو الظلمة، ومن واجب الإنسان أن يترقى صعوداً حتى يفنى في المصدر النوراني. وهذه الأفكار هي أساس العقيدة الهندوسية والطاوية والمجوسية والبوذية المسماة بالفلسفات الشرقية، كما تأثر هذا الرجل بالفلسفة اليونانية الاشراقية وفلسفة فيثاغورس وكانت جميعها مصدر عقيدته. فنظرية التقابل بين النور والظلمة التي ادعاها هي النظرية نفسها في عقيدة (الين واليانغ) في ديانة الصين القديمة. فاللون الأبيض في هذه العقيدة يرمز إلى النورانية الروحانية واللون الأسود يرمز إلى المادي الظلماني، وفلسفته عبارة عن مزيج بين الأفكار الصوفية والأنظار الفلسفية.

تم إحصاء ما يقارب أربعين مصنفا للسهروردي خاصا بالفلسفة الاشراقية وما يسميه بالحكمة وأهمها مصنف (حكمة الإشراق) الذي يتحدث في المنطق والإلهيات والهياكل النورانية. وهو كتاب يظهر حقيقة فلسفته الاشراقية. وقد ترجمه بنفسه من اللغة العربية إلى اللغة الفارسية. وله رسالة في اعتقاد الحكماء ورسالة (غربة الغربية)  وهي قصة كتبها بعد قراءته لقصة حي بن يقظان لابن طفيل، فتأثيرها أنعكس على نفسه لذا كتب قصة مثلها.وترك كذلك عدة أعمال أخرى مثل: مؤنس العشاق وهياكل النور والبارقات الإلهية والمناجيات ورسالة النمل وصفير سيمرغ. في مدينة حلبالسورية كتب أهم أعماله ( حكمة الإشراق) وكتاب (اللمحات) وكتاب (التلويحات)، وكتاب (المقاومات) وكتاب (المطارحات)، إضافة إلى العديد من الكتيبات والرسائل.

 ونظرا لتأثره برجال الفلسفة ترجم  رسالةالطيرلابن سينا إلى اللغة الفارسية. وله كتاب في السحر، وشرح الإشارات لابن سينا؛وكشفالغطاء لإخوان الصفاء. وله طائفة من الكتب التي تبلورت فيها أفكاره بين النظريات الفلسفية والسحر.

فلسفة الإشراق التي اعتمدها السهروردي كنظرية صحيحة كانت أساس عقيدته ومصدر إلهامه وإلهام طائفة من الصوفية معتبرين الاستبصار والمكاشفة طريقا لتلقي الوحي واستشفاف الغيب، وعلى أساس ذلك بنوا عقائد وهمية خارج الأطر الدينية الصحيحة سموها (الروحانية الخيالية).

نقل مؤرخون عن كتب السهروردي أن فلسفته الاشراقية تعتبر إحدى النماذج الحية التي يظهر فيها التداخل بين الفلسفة العقلانية ( المشائية) وبين فلسفة التصوف وتشابكها بالفكر الإشراقي المتعدد الأوجه (الزرادشتي، الفيثاغوري، الأفلاطوني، والهرمسي والبوذي والهندوسي) الذي بلور أفكارها المختلفة في إطارالإسلام العام. ويبدو أن المذهب الصوفي الإشراقي الذي تزعمه السهروردي كانت تقوم مبادؤه على وحدة الوجود وهو ممن نظم لنظريتها المتكاملة.

قيل أن أهل حلب كانوا مختلفين في أمر السهروردي، فكان يرميه بعضهم بالزندقةوالإلحاد، على حين كان ينعته بعضهم الآخر بالرجل الصالح المؤيد بالملكوت. وأشار ابن غياث الدين الشيرازي في كتابه (الذكرى ) أن السهروردي وبعض حكماء المسلمين قد ضلوا طريق الفضيلة وزاغوا عن أخلاق الحكماء الأوائل بتعاطيهم الخمور وإقبالهم على متاع الدنيا حتى غرقوا في الريبة والفجور، وراحوا يطلبون المجد من طريق جمع المال وتملُّق السلطان. ورأى فريق آخر أن السهروردي كان خياميا يعاقر الخمر مثل عمر بن الخيام. غير أن بعضهم رأى أنه لم يكن يعاقر الخمر إنما نسب له فعل ذلك نظرا لكثرة ما ذكرها في أشعاره بمقاصدها الصوفية التي ترمز إلى الحب الإلهي. وسننظر لهذه القضية من وجوه عدة.

 لعل مجمل التهم الموجهة إلى السهروردي كانت غير كافية لقتله. إذن، فما هي التهم  الحقيقية التي كانت سببا رئيسا في محاكمته وتنفيذ قرار قتله ؟ وهل كانت مؤسسة على قرائن ثابتة؟

أتهمه فقهاء الدين بالزندقة وانحلال عقيدته، وحملوه بأقوال جريئة في الدين، ثم قدم إلى محاكمته بحضور الملك الأيوبي نفسه، وهي محاكمة لم تتطرق إليها المراجع التاريخية المختلفة، وخاصة  الإسلامية منها، ما عدا ما ذكره الاصفهاني في كتابه وما ذكر في كتاب (البستان الجامع لتواريخ الزمان) الذي نشره كلود كاهن سنة 1937م. حيث ذكر أن محاكمة السهروردي كانت خلفية حيثياتها القول في بعض كتبه بأن الله قادر على أن يبعث نبيا بعد محمد. وعندما وجهت له هذه التهمة أثناء المحاكمة لم ينكرها جملة، بل حصر دفاعه في إثبات قدرة الله على فعل ذلك.

القول بأن الله قادر على أن يبعث رسولا بعد محمد تطعن في مصداقية نهاية النبوات والاعتقاد بظهور أنبياء آخرين يفتح الباب أمام أدعياء النبوات، وقد تأكد أن كل الذين ادعوا النبوة في كل العصور كانت لهم انتماءات صوفية. وكلمة (قادر) لا تعني بالضرورة  أن قدرة الله مقيدة بمشيئة أزلية قطع فيها على نفسه عهدا أن لا يبعث بعد محمد رسولا. وقد تعني كذلك أن قدرة الله مقيدة بهذه المشيئة ما دامت السموات والأرض.

هذا القول الفلسفي في نظر الفقهاء يعد وثبة جريئة للطعن في النصوص الدينية الأساسية التي يقوم عليها اعتقاد الناس. وأن الله ليس قادرا على فعل ذلك كما قال التيجاني ودلالته أن الله مقيد بمشيئة أزلية. ويبقى الحل أن تبقى هذه الفلسفات بعيدة عن مسامع الناس. وربما كانت حجة الملك الأيوبي محاكمة السهروردي على هذا الأساس لأنه أراد بذلك سد باب الجدل في هذا الموضوع ودرء المخاطر التي تكون نتائجها وخيمة على الدين والعقيدة.

ورواية الأصفهاني تكتفي بذكر قول السهروردي أمام السلطان الأيوبي " إن الله قادر على أن يخلق نبيا لأنه لا حدود لقدرته"، وهو قول كذلك يفضي بمعنى نهاية نبوة محمد عليه الصلاة والسلام وأنها ليست الخاتمة. غير أن بعضهم علل أن قدرة الله لا تنتهي عند حد من الحدود، ولكن الاعتقاد ببقاء أبواب النبوة مفتوحا بعد محمد يعد بمثابة نهاية للإسلام برمته، لأن عقيدة المسلمين تقوم على أنه لا نبي بعد محمد. وأن بعضهم رآه قولا افتراضيا عن قدرات الله غير المحدودة، ثم أن المؤرخين يشككون في رواية الأصفهاني كونه المؤرخ الوحيد الذي ذكر هذه الرواية.  منقول

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق